التقيتُ مرَّةً بأحد هؤلاءِ الشَّباب المتأثِّرين بأقوال الملاحدة، فشعرتُ أنَّه يريد أن يقولَ لي شيئًا، ولكن إيمانه لا يأذن له أن يصرِّح بما أراد صراحةً، فالكلمات كانت تنعقد في فمه، ثمَّ جمع شمله وقال: يا أستاذي ألم يقل ربُّنا تبارك وتعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل:62]، إن لم يُجب الله عزَّ وجلَّ المضطَّرين ويكشف السُّوء عنهم في هذه الأيَّام، متى يجيبُ ويكشف؟
أين وعد الله
ألم يأتِ فجرُ هذه اللَّيالي المظلمة، ألم يَعِدِ الله عزَّ وجلَّ عدم تَسلُّط الكافرين على المؤمنين: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء:141]، ألم يقل ربُّنا: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:249]، أليس هذا وعدٌ مِن وعوده سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ [الحج:38]، ألم يعدنا أيضًا بقوله: ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُون﴾ [الصافات:173]، لماذا لا تتجلَّى هذه الآية فينا: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47].
قلتُ له: هذه الوعود حقيقةٌ قطعيَّةٌ، كحقيقة مجيء الفجر بعد هذه اللَّيلة، ولكي تتجلَّى فينا هذه الوعود، لا بدَّ لنا مِن بدلٍ نقدِّمه لربنا تبارك وتعالى؛ لنرَ هذه الوعود كما نرى الشَّمس في رابعة النَّهار.
إنَّ الله عزَّ وجلَّ أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ليجمع المؤمنين في معسكر الحقِّ؛ ويهزم بهم معسكر الباطل ويفتح بأيديهم طريق الجنَّة، والله لم يرسل نبيه صلى الله عليه وسلم لينهزم المسلمون، بل: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة:33].
يا أيُّها الشَّابُّ المسلم: لا تجمع هممك في نقطةٍ واحدةٍ، ولا تهتزَّ أمام هذه الكوارث المتتالية، بل انظر إلى تاريخ البشر مِن الأزل إلى الأبد، ترَ كيف دمَّر الله عزَّ وجلَّ الفراعنة، وأهلك القياصرة حين جاء الوقت: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ [فاطر:45]، عندها ستصدق وبكلِّ يقينٍ أنَّ الله قادرٌ على أن يَنتقم مِن الظَّلمة في عصرنا هذا.
تحليل الوعود الإلهية
إن تشترِ حاسوبًا أو آلةً كهربائيَّةً أو شيئًا آخرَ، يعطك البائع معها كُتيِّبًا لتتقن استخدام هذه الآلة، وعندما تتعطل الآلة تضمن الشَّركة إمَّا الخسارة، أو تبديل الآلة بآلةٍ جديدةٍ،
والله عزَّ وجلَّ أيضًا أرسل كتابًا للإنسان، من يَستفد مِن بدنه أو عقله موافقًا بهذا الكتاب، فالله يَعِدُهُ بالنَّصر والتَّخلص مِن البلاء، فالله عز وجل يقول: ﴿إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات:172-173].
حينما يذهب الرَّجل إلى الخدمة الإلزاميَّة في جيش بلاده، يلبس لباس العساكر مِن القلنسوة إلى الحذاء، مراعيًّا قانون الخدمة الإلزاميَّة، وكذلك في دخوله وخروجه من المطعم لا بدَّ له مِن أن يراعي قوانين المطعم، العسكريُّ وكلُّ شيءٍ في هذه الحياة العسكريَّة مربوطٌ بقوانينَ خاصَّةٍ لا يحقُّ لأحدٍ أن يخالفها، فمن يخالف النِّظام العسكري يُعاقب أو يُكرم؟!.
فهل فكَّرتم يومًا ما هو شرط الالتحاق بجند الله؟
مَن كان يريد أن يكون جنديًّا مِن جنود الله، فالجدير به أن يؤدِّب نفسه، ويهذِّب خلقه، وينظِّم حياته وفق كتاب الله عزَّ وجلَّ وألَّا يَنظرَ إلى العاريات والرَّاقصات في القنوات المخلة بالآداب؛ لأنَّ الله عزَّ وجلَّ حرَّم على جنوده أن يخالفوا النِّظام الذي أسسه لهم وأن ينظروا إلى المحرَّمات: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ [النور:30].
فمَن كان يُريد أن يكونَ جنديًّا مِن جنود الله عزَّ وجلَّ، فالواجب عليه ألَّا يبيعَ ولا يشتري بالربا؛ لأنَّ صاحب الجند قد حرَّمها وقال: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة:279]، وألَّا يأكل إلَّا المال الحلال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة:188].
فهل تَرونَ أنَّ المسلمين الآن يستحقِّون أن يُقبلوا مِن جند الله عزَّ وجلَّ، أهؤلاء الرِّجال الذين ينتظرون أمام البنوك الرِّبويَّة؛ ليأخذوا الربا، أو الذين يأذنون بأن تلبس بناتهم الملابس القصيرة وتبدين زينتهنَّ ومفاتنهنَّ للأجانب مِن جند الله عزَّ وجلَّ.
يا أيُّها الشَّابُّ: سل نفسك ثمَّ سل الملحد الذي يريد أن يفتنك، الله عزَّ وجلَّ لمن وعد نصره؟
على سبيل الفرض إن يعط الله إليك حقَّ التَّقويم والتقدير نسبة إلى ميزانه، فهل تَرضى أن تكونَ هذه الشُّعوب مِن جند الله عزَّ وجلَّ؟ فإن كان جوابك لا، إذن فلماذا تسأل متى ينصر الله عزَّ وجلَّ جنده؟!
نعم نحن نبكي ولا نفعل شيئًا غير البكاء، ومع هذا نقول: ﴿وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾ [النساء:75]، ونعيش عيشة الأذلاء لابتعادنا عن ديننا، وأنت تتساءل: لماذا لم تتجلَّ هذه الآية فينا: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة:117].
نتهم أنفسنا
يا أيُّها الشَّابُّ المسلم: أما تعرف أنَّ الله عزَّ وجلَّ ربط وعودَه بالقيود والشُّروط، أين القيود والشُّروط منَّا؟ أما تَعرف أنَّ سنن الله عزَّ وجلَّ لا تتبدَّل: ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب:62]، لمن هذه الوعود؟ وأين الرعاية بهذه الوعود؟، هل ارتقينا إليها أو قربنا منها، الصَّحابة والتَّابعون وسلفنا الصَّالح، هم آمنوا و هاجروا، وجاهدوا، وباعوا أنفسهم؛ لابتغاء مرضاة الله، قال الله عزَّ وجلَّ لهم: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح:18]، الله وعد النَّصر لجنده، فأين نحن مِن جند الله عزَّ وجلَّ؟، فالواجب علينا أن لا نتَّهم وعوده، بل نتَّهم أنفسنا، ألم يحقق الله تعالى ما وعد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه رضوان الله عليهم، فعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، قَالَ: وَعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنَ الخَنْدَقِ، لَا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، قَالَ: فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ عَوْفٌ:، وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَضَعَ ثَوْبَهُ ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الصَّخْرَةِ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: « بِسْمِ اللهِ « فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، وَقَالَ: « اللهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا «. ثُمَّ قَالَ: « بِسْمِ اللهِ « وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ فَقَالَ: « اللهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ، وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الْأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا « ثُمَّ قَالَ: « بِسْمِ اللهِ « وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: « اللهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا» [مسند أحمد برقم:18694].
ألم يتحقق ما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيصر وكسرى وفتح اليمن وفي فتح اصطنبول فقال:«لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ» [مسند أحمد برقم:18957].
الأطفال كالجيش إن جهزهم آباؤهم بالإيمان والعلم يحفظوا شعوبهم، وإن لم يفعلوا هذا يَهلكوا ويُهلكوا، فهل ربَّينا في بيوتنا أطفالًا مثل سعد بن أبي وقاص أو خالد بن زيد أو أبي أيوب الأنصاري، إن نقلنا: لا، فلماذا نتَّهم وعود الله عز وجل إذن؟
مَن كبَّر وعظَّم الدُّويلة الصَّغيرة
مَن كبَّر وعظَّم الدُّويلة الصَّغيرة (أي الدولة العثمانيَّة) في مقابل حصون روما، وكسر أهل الصَّليب، وحمى المسلمين مِن الاستعمار بها؟ أين عزمنا في هذا الأمر
يا أيُّها الشّابُّ المسلم: إنَّ الله عزَّ وجلَّ لم ينصر الذين قصَّروا في شروط النُّصرة حتَّى وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم كأصحابه صلى الله عليه وسلم حين لم يطيعوه في البقاء على جبل الرُّماة رَغم تنبيهه لهم بعدم ترك الجبل فانهزموا، فعن البَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلًا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: «إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَلاَ تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ، هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا القَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ، فَلاَ تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ»، فَهَزَمُوهُمْ، قَالَ: فَأَنَا وَاللَّهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ، قَدْ بَدَتْ خَلاَخِلُهُنَّ وَأَسْوُقُهُنَّ، رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ، فَقَالَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ: الغَنِيمَةَ أَيْ قَوْمِ الغَنِيمَةَ، ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا: وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ، فَلَنُصِيبَنَّ مِنَ الغَنِيمَةِ، فَلَمَّا أَتَوْهُمْ صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ، فَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمُ الرَّسُولُ فِي أُخْرَاهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ [البخاري برقم:3039].
هل صرتَ يا مَن يتَّهم وعد الله مثلَ عبد الله بن جبير في بيتك وسوقك وجامعتك تصمد وترابط في المكان الذي أقامك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تتركه وتقول: الغنيمةَ الغنيمةَ.
أين جبل الرماة في عصرنا
يا أيُّها الشَّباب الذين ينتظرون نصر الله عزَّ وجلَّ: هل ذهبتم إلى النَّاس الذين يقفون أمام البنوك لأخذ الرِّبا، وقلتم لهم: أطيعوا الله والرَّسول صلى الله عليه وسلم وذروا الرِّبا، يا أيتها الشَّابَّة التي تتَّهتم وعد الله عزَّ وجلَّ وتنتظر نُصرته، هل ذهبتِ إلى تلك البنات العاريات؟ وقلت لهنَّ: لا تعصين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، هل حوَّلتي بيتك إلى جبل الرُّماة وقمتي في موقف عبد الله بن جبير؟
كلُّ البيوت، والمدارس، والمساجد، والجامعات، والمصانع، والأسواق بمنزلة جبل الرُّماة في زماننا هذا فماذا يفعل المرابطون؟ يجاهدون أو يسرعون إلى الغنائم؟! قال الله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران:132]، أي لكي تُرحموا، فمعنى هذه الآية، إن لم يطع المسلمون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا تأييد ولا نصر لهم البتَّة، فجبل الرُّماة في أُحدٍ يذكِّرنا بهذه الحقيقة.
يا أيُّها الشَّابُّ المسلم: شوارعنا التي امتلأت بالنِّساء المتبرِّجات، والمعاصي الظَّاهرات، أصبحتْ مثلَ أُحدٍ، ومدارسنا وجامعاتنا أيضًا، وتجَّارنا وقُضاتنا وكُتَّابنا، تركوا جبل الرُّماة والتفتوا إلى الملَّذات الفانيات، والنساء تركن أمر الله ورسوله في التَّستُّر وتبعن خطوات الشَّيطان.
فحنينٌ تمزِّق وأحدٌ تهلك
مخالفة أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدَّلت بلادنا مِن الأمن إلى الخوف، ومِن البركة إلى الـجَدب، ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم:41] فمخالفة الرَّسول صلى الله عليه وسلم سبب الحرمان مِن النُّصرة، فحنينٌ تمزِّق، وأحدٌ تهلك، عندها لا تنقذنا صلاتنا لا وصيامنا.
إن لم نراعِ شروط النُّصرة، ولم نوفِّ بما وعدنا به ربَّنا، فلماذا يحمينا وينصرنا؟!
ألم يقل الله عزَّ وجلَّ لليهود حينما تركوا العهود: ﴿بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾ [المائدة:18]، نحن صرنا بشرًا مـمَّا خلق، ليس لنا قيمة ولا قدر عند الله ، ألم يقل ربنا: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا﴾ [الفرقان:77].
يا شباب الأمَّة: الدُّعاء هو العبادة، فهل عبادتنا الملوَّثة بالمحارم تَستَجْلِبُ رحمة الله سبحانه وتعالى؟ بالله عليكم كيف تُستَجْلَبُ هذه الرَّحمة التي منعها الله عزَّ وجلَّ عن أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم حينما خالفوا بعض أمره في جبل الرُّماة، هل نحن أقرب إلى الله تبارك وتعالى منهم؟ هل يوجد منَّا وليٌّ أو عالمٌ أو قائدٌ، بُشِّر في الدُّنيا بالجنَّة كما بَشَّرَ النَّبيُّ كثيرًا من أصحابه بها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الجَنَّةَ، قَالَ: «تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ المَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ» قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا، فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا» [البخاري برقم:1397].
يا أيُّها الشَّابُّ المسلم: لا تظنَّ بالله ظنَّ السُّوء، فالله سبحانه وتعالى يدافع عن الذين آمنوا إن هم وفوا بما عاهدوا الله عليه، كما حفظ نوحًا وإبراهيمَ وموسى ومحمدًا صلوات ربنا وسلامه عليهم أجمعين، وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التَّسليم، فتعال بنا نعلن النَّفير العام لإصلاح بيوتنا ومساجدنا، فلندعو الذين آمنوا بالإيمان إلى الاقتداء بكتاب الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء:136]، فلندعو الذين يؤدون الصَّلوات صورةً أن يؤدُّوها حقيقةً؛ لتنهاهم عن الفحشاء والمنكر، فإن لم نصلِّ الصَّلاة على حقيقتها، فما الفرق بيننا وبين الذين تركوا الصلاة حقيقة بعد أنبيائهم: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾ [مريم:59]، وأَحَدُ معاني هذه الآية أنَّهم تركوا الخشوع فيها، فأين نحن مِن الصَّحابة والتَّابعين والسَّلف الصَّالح في استجابة الدُّعاء، مساجدنا تمتلئ في كلِّ جُمعةٍ ولكن للأسف كيف يضيِّع المسلمون صلواتهم في أعمالهم الرِّبويَّة والأسريَّة والتَّعليميَّة والتَّربويَّة والسياسيَّة متَّبعين فيها الغرب والشَّهوات بعد كل هذه هل ينتظر العاقل الحكيم نصرًا مِن الله أو: ﴿يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم:59].
ما بين بدر وحنين
انتصر المسلمون حينما توكَّلوا على الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [آل عمران 129]، وانهزموا حينما اعتمدوا على كثرتهم: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة:25]، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قلَّةً في يوم بدرٍ، ولكنَّ الله حقَّق لهم وعده، وأيَّدهم بنصره لأنَّهم مفتقرون ومنيبون إليه، ولكن انهزموا يوم حنينٍ؛ لاعتمادهم على الكثرة.
فانظر أيُّها الشَّابُّ المسلم بعين القلب، كيف أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يؤيِّد بنصره جيشَ المسلمين، وفيه السَّابقون الأوَّلون مِن المهاجرين والأنصار، فكيف بنا نحن، وقد خنَّا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتركنا جبل الرماة وضيعنا الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وارتكبنا جميع أشكال الموبقات؟!
ماذا نفعل ؟
فالواجب علينا يا شبابنا أن نجدِّد إيماننا بالله سبحانه وتعالى، ونغرس أحكام الله تعالى في قلوبنا، ونترك الاعتماد على غير الله عزَّ وجلَّ.
العبادة الصُّورية والعبادة الحقيقيَّة
أرجو منكم أن تلاحظوا حالنا بهذا المثال:
الممثل في المسرح إذا كان يقوم بدور رئيس الدَّولة في المسرح، وفي المسرح يوقِّع الأوراق الرسميَّة، ويَعزل الرِّجال في الدَّولة وينصِّب آخرين، فما قيمة توقيعه في الحقيقة والواقع؟
ليس له في الحقيقة أيُّ قيمةٍ سوى قيمة الأوراق المبذولة لهذه التَّواقيع، لكن إن كان هذا الرَّجل رئيس الدَّولة على التَّحقيق يعيِّن بتوقيعه ويَعزل مَن يشاء، فالعاقل يدرك أنَّ ما بين التَّوقيعين فرقٌ شاسعٌ، كالفرق ما بين ظلام اللَّيل وضوء النَّهار، وهذا هو الحال ما بين العبادة الصُّورية والعبادة الحقيقيَّة، والإيمان بالألسنة والإيمان بالقلوب.
فالإسلام لا يقبل التجزؤ أبدًا
الرَّجل إذا لم يُطع أمرًا مِن أوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم يكون مطيعًا فيما أطاع وعاصيًا فيما ترك، لكن إذا ترك ركنًا مِن أركان العبادة تَبطل عبادته، فالحاجُّ إذا ترك الوقوف في عرفاتٍ أو المصلي إذا نسي الركوع في الصَّلاة، تكون عبادته باطلةً، وكذلك الإسلام، لا يَقبل أن يأخذ المؤمنُ منه ما يشاء ويترك منه ما يشاء، فالإسلام لا يقبل التجزؤ أبدًا.
يا أيُّها الشَّابُّ المسلم: إن نعلن أمام النَّاس جميعًا أنّنا نحن المسلمين لا نقتدي إلَّا بالإسلام وحده، ولا نعيش إلَّا بالإسلام وحده، فالله ينصرنا ويُبدِّل المقاييس والموازين، فيكثِّر القليل ويقلِّل الكثير في جبهاتنا قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُور﴾ [الأنفال:44].
ومن يقف في وجهنا إن كانت يد الله فوق أيدينا
إن نكن مع الله سبحانه وتعالى يحوِّل التَّراب الذي في أيدينا إلى جنودٍ مِن جنده، فتكون أشدَّ تأثيرًا وإرهابًا مِن صواريخ أعدائنا: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال:17]، ومن يقف في وجهنا إن كانت يد الله فوق أيدينا: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح:10].
إن نعمل ونجتهد في سبيل الله لتكون كلمته هي العليا، ونؤمن كما آمن إبراهيم وموسى، نشاهد عجز النمرود وفرعون أمام كل المؤمنين، لأنَّ الله تعالى معهم في كل مكان: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ [الزخرف:84]، ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام:59]، فالواجب علينا ألَّا نترك التَّوبة والاستغفار والتسبيح وأن نجيب دعوة ربنا: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ [الزمر:54].
فلنلتجئ إلى كهفنا
يا أيُّها الشَّابُّ المؤمن: هلمَّ بنا لنتوب من ذنوبنا ونحمل الأمة على التوبة من ذنوبها فلنلتجئ إلى كهفنا كهف الإيمان والإسلام، ألم يقل الله لأصحاب الكهف: ﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ [الكهف:16] وفي كهفنا نحفظ جوارحنا من المعاصي ونبلِّغ الإسلام إلى كلِّ الجماعات، وإلى كلِّ الأمَّة، ونكون تحت ظلِّ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» [البخاري برقم:3461]، ونترك التنازع والتحاسد بيننا لقوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا» [البخاري برقم:6065].
فنصر الله سبحانه وتعالى متعلِّق بنُصرة بعضنا بعضًا فالله لا ينصرنا ولا يؤيِّدنا إن كنَّا متنازعين متناحرين: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال:46].
آمن كما آمن سراقة
إنَّ حال المسلمين اليوم يشبه كثيرًا حال المسلمين في مكَّة قبل الهجرة من التَّعذيب والضَّعف، يتواطأ الكفار على المسلمين كما تواطئ المشركون في مكة حينما قَرُبَ وقت الهجرة فتآمروا على قتل أو حبس أو نفي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال:30]، وعندما سَلِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن مكرهم أعلنوا الجائزة الكبرى، وهي مئةٌ مِن الإبل لمن يأتي به صلى الله عليه وسلم.
الرسول صلى الله عليه وسلم تحت هذا الضغط خرج من مكة متوكِّلًا على الله عزَّ وجلَّ وخرج وراءه أهل مكَّة يطلبونه لعدواتهم الشديدة على الإسلام ومن أجل الجائزة الكبرى فما ظفر به منهم سوى سراقة بن مالك، فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: فَلَمْ يُدْرِكْنَا أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا. فَقَالَ: «لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا» حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَّا فَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ قَدْرُ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا. وَبَكَيْتُ، قَالَ: «لِمَ تَبْكِي؟» قَالَ: قُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ مَا عَلَى نَفْسِي أَبْكِي، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَيْكَ. قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ» . فَسَاخَتْ قَوَائِمُ فَرَسِهِ إِلَى بَطْنِهَا فِي أَرْضٍ صَلْدٍ، وَوَثَبَ عَنْهَا، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا عَمَلُكَ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُنْجِيَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَأُعَمِّيَنَّ عَلَى مَنْ وَرَائِي مِنَ الطَّلَبِ، وَهَذِهِ كِنَانَتِي فَخُذْ مِنْهَا سَهْمًا، فَإِنَّكَ سَتَمُرُّ بِإِبِلِي وَغَنَمِي فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، فَخُذْ مِنْهَا حَاجَتَكَ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا» . قَالَ: وَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُطْلِقَ [مسند أحمد برقم:3]، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟» [الإصابة في تمييز الصحابة:3/35].
إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستطع العيش بدينه في مكَّة، ولم يأذن له أهلها أن يعلن أوامر الله ونواهيه؛ لأجل هذا هاجر ولم يرافقه في هجرته هذه إلا أبو بكر ومع كل هذا الضَّغط بشر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم سراقة بفتح فارس وبلبس سواري كسرى؛ سراقة الذي شاهد معجزة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أيقن حقَّ اليقين أنَّه رسول رب العالمين، ولم يشك ولم يقل: كيف يمكن هذا؟ وهل يعقل لمهاجرٍ لبلدٍ آخر لا يعرف ماذا ينتظره في بلدِ هجرته! هل يستقرُّ هناك أو يهاجر إلى بلد أخر؟ ومع هذا تعدني بفتح بلدٍ آخر مثل بلاد فارس التي هي مِن أكبر البلاد وأمنعها، ولما رجع إلى مكَّة سأل عنه أبو جهلٍ وسأله عن سبب تركه لرسول الله وعزوفه عن الجائزة فأنشده قائلًا:
أَبَا حَكَمٍ وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ شَاهِدًا … لأَمْرِ جَوَادِيَ إِذْ تَسُوخُ قَوَائِمُهُ
عَلِمْتَ وَلَمْ تَشْكُكْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا … رَسُولٌ بِبُرْهَانٍ فَمَنْ ذَا يُقَاوِمُهُ
عَلَيْكَ بِكَفِّ الْقَوْمِ عَنْهُ فَإِنَّنِي … أَرَى أَمْرُهُ يَوْمًا سَتَبْدُو مَعَالِمُهُ
بِأَمْرٍ يَوَدُّ النَّاسُ فِيهِ بِأَسْرِهِمْ … بِأَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ طُرًّا يُسَالِمُهُ
فكِّر في حال سراقة مرَّةً بعد أخرى، وضعْ نفسك في موقعه، وثمَّ خاطب نفسك قائلا لها: سراقة لم يتردَّد، ولم يقل: كيف يُمكن أن يتحقق هذا الوعد الذي صدر مِن هذا النَّبيِّ الذي خرج مِن مكَّة خائفًا؟ وليس هذا فحسب بل وعدني بأن ألبس سواري كسرى، فيا أيها الشَّابُّ هذه هي حلاوة الإيمان التي لامستْ قلب سراقة، فبدَّلتْ شكَّه يقينًا وكفره إيمانًا.
يا أيُّها الشَّابُّ المؤمن الذي أحيط عالمه الإسلامي مِن كلِّ ناحيةٍ بالأعداء كما أخبر الله تعالى: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ [الأحزاب:10] آمن كما آمن سراقة بن مالك يبدِّل الله لك الخوف أمنًا والضَّعف قوَّةً والهزيمة نصرًا.
يا أيُّها الشَّاب المؤمن في زمن عمر لما فتحت فارس جِيءَ بِفَرْوَةِ كِسْرَى وَسَيْفِهِ وَمِنْطَقَتِهِ وَتَاجِهِ وَسِوَارَيْهِ، ألبس ذَلِكَ كُلَّهُ لِسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ وَقَالَ: قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَلْبَسَ ثِيَابَ كِسْرَى لِرَجُلٍ أَعْرَابِيٍّ مِنَ الْبَادِيَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّمَا أَلْبَسَهُ ذَلِكَ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِسُرَاقَةَ وَنَظَرَ إِلَى ذِرَاعَيْهِ: « كَأَنِّي بِكَ قَدْ لَبِسْتَ سِوَارَيْ كِسْرَى « [البداية والنهاية:9/144].
يا أيُّها الشَّاب المؤمن الذي تأثَّر بالملحدين وأتَّهم وعد الله عزَّ وجلَّ، قل لنفسك: إن ننصر الله فهو ينصرنا ويأخذ الأساور مِن يدي الأكاسرة الذين ادعوا بأنهم آلهةٌ، ويلبسوها في أيدي الرِّجال الذين كمثل سراقة الذين أعلنوا بأنهم عباد الله سبحانه وتعالى.
يا أيُّها الشَّابُّ المسلم تعال نصلح أحوالنا فلنبدأ أوَّلًا بإصلاح أنفسنا بالاقتداء بأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك نعلن النَّفير العام، عندها يحقُّ لنا أن نقول: اللَّهم إنَّا جنودك فانصرنا، واهزم أعداءنا.
فيظلنا الله سبحانه وتعالى بظلِّ قوله: ﴿إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات:172-173]، و ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء:141]